غير مصنف

العزلة

رفعتُ رأسي من على أوراقي ونظرتُ إلى السّاعة، كانت أشبهُ بصوتِ قطراتِ الماء حين تتساقط من صنبورٍ معطّلٍ في تناغمٍ تامٍّ صوتٍ كئيب، كانتِ الثالثةُ بعدَ منتصفِ اللّيلِ في ذاك الجوِّ العاصفِ البارد، حيثُ كانَ ذلك الكوخُ لا يقيني بردَ الشِّتاء ولا حرارةَ الصَّيف، أشدُّ ما كنتُ أشعرُ أنّهُ حزينٌ من أجلِ حالتي، هو تلكَ الشّمعةُ التي تذرفُ دمعاً كلّّ ليلةٍ وهي تشاركُني لياليَ السّهرِ الطويلة

لا أدري إنْ كنتِ تبكينَ من لهيبِكِ أم من أجلي، لكن شكراً لكِ فدموعُكِ كانَتْ تحفِرُ قلبي

لا تحزني يا صغيرتي فالقلمُ الذي بيْن أصابعي ليس أفضلُ حالاً منكِ، فهو يهدُرُ آخرَ قطرةٍ من حِبْرهِ في سبيلِ أنْ أخطَّ بهِ ما أريد، أتعلمون، أعتقدُ بأنّي أنا السّفاحُ الوحيدُ في هذا الكوخِ الصغير

أيامٌ وسنواتٌ تمضي وما زلتُ أُشعِلُ كلّ يومٍ شمعةً وأكتبُ بذاك القلم، ولم تشتكوا طغياني واستغلالي لكم

لكن يسعدُني أنّكم تحفظونَ أسراري ولا أجدُ أيَّ إحراجٍ عندما أخبرُكم بما يعتريني من ألمٍ وفرحٍ وحُزن

لا أدري ما ذنبكم أنْ تعيشوا مع كهلٍ أثخنت به الحياة أيّما إثخان

أتحبّونَ العزلةَ مثلي؟

أم هو القدرُ ما جمعَنا!؟

ذاتَ يومٍ أردْتُ إشعالَ الشّمعةِ فلم تعملْ عُلْبةُ الكبريت.

وخيَّمَ الظُلام على كوخيَ الصّغير، لم أحاولْ أنْ أُشعِلَ أيّ شيء

جلست قرب النافذة، راودتني ذكرياتي وأصبحت أقارن الحياة الماضية والحياة الفعلية في العزلة، في ذاك الزمان حيث كان ضجيجُ العالمِ غريبٌ لدرجةِ أنّ كثيراً من الأحيان كنت أشعر بالغربة

ماذا أفعل؟ لماذا أنا هنا ؟!

وتكثرُ إشارات الاستفهام ولا أستطيع أن اجيبَ على أيٍّ من تلك الأسئلة

ذات يوم ضجِرتُ وسئِمتُ تلك الحياة، فقرّرت الرّحيل عن الجميع إلى حياةٍ أُخرى بعيداً عن الجميع، بعيداً عن الضّجيج، بعيداً عن النفاق، بعيداً عن تلك الصّداقات التجاريّة التي تشبه تلك السلع الرخيصة التي كانت تُباع على جَنَبات الطريق أنا لم أذهب إلى العزلة مع أنّني أحتاجها

لا بل ذهبتُ من اللّاحياة إلى الحياة بعيداً عن الجميع، نعم كوخيَ هذا وقلمي وشمعتي هم كلّ عالمي

أنتَ الآن يا من تقرأ كلامي قل ما شئتَ في سريرتك، نعم إنّي خرافةٌ لكننّي أعيشُ أجملَ حياةٍ في ذاك الكوخ

جميلٌ أنّني الآن أعيش الحياةَ عن بُعد، والأجمل أني في تلك العزلة الإراديّة الجميلة.

أحمد الشحادي (حلب)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى