غير مصنف

حياة… تلفحت بالسواد

 

بثياب سوداء كليلةٍ غاب فيها القمر، ونظرات توحي بأن جبلاً من الهموم يجثو على صدرها، دخلت من باب المشفى تحملُ بداخلها تاريخاً من الوجع، وقفتُ بذهولٍ أما تجاعيد وجهها الضبابي، نسيتُ نفسي وأنا أتأملُ ما انتدبه الزمن في تفاصيل وجهها.

اختفى كل شيء من حولي وكأنه سراب، لم يبق أمامي سوى صورتها، فانتابني الفضول لأعرف من هذه الزائرة، هممتُ بالذهاب إليها وكنت كلما تشجعتُ عدت للجلوس مرة أخرى.

لكن ماذا بعد؟

لا بد لي من التعرف عليها، مشيت والكلام متلعثمٌ في فمي، فقلت لها بصوتٍ خافتٍ وبكلماتٍ بالكاد أستطيع نطقها: مرحباً يا خالة، فردّت بصوتٍ مبحوحٍ تخنقه العبرات أهلا يا ابنتي.

زادني الفضول لأتعرف عليها أكثر وأعرف عن قرب ما خلفته السنون فيها من تجاعيدٍ على وجهها وكأنها تضاريس وطنٍ عاش ويلات الحرب وذاق مرارتها.

جلسنا في مكانٍ منعزل عن الآخرين ودون إذنٍ مسبق سألتها عن عائلتها وعن أحولها، فأشاحت بوجهها عني ناظرةً إلى جهةٍ أخرى في محاولة لإخفاء دموعها التي تنهمر من عينيها الصافيتين.

قالت لي: كانت حياتي مشرقةً ولي عائلةٌ مثالية..

حتى أثناء الحرب كنا نعيش بسعادةٍ ومحبَّة.

صمتت قليلاً وزفراتها ملأت المكان، ثم قالت: لكن في يومٍ ما قد تلفح بالسواد، وقلب حياتي رأساً على عقبٍ وكأن الفرح كان زائراً مؤقتاً وغادرني إلى حيث اللاعودة..

لقد توقفت عجلاتُ الزمن عندي، عندما سلبتني القذيفة النور الذي كنت أبصر به.

كنت أسمعها نعم أسمعها دون أن أتمكن من الهمس حيث أكلمت قائلة:

أحمد لم يزل هنا، هنا أشياؤه وكتبه المدرسية، أحمد لم تقتله القذيفة، ابني لم يزل يضيء في عيني ولم يزل يحلم بمستقبلٍ زاهرٍ تزهر معه حياتي، ابني لم يزل حيَّا يا وفاء”.

لماذا أحمد؟

الذي كان يقول لي: سأدرس يا “ماما” كي أصبح طبيباً أعالج الفقراء بالمجان.

توقفت عن الكلام لتبتلع عبراتها، ثم تبسمت بهدوءٍ يملأه الوجع.

وأثناء ذلك وإذ بممرض شاب يمرُّ من أمامنا فعادت للحديث عن ولدها وقالت: ماذا لو كان ولدي أحمد حياً، ماذا كان لو تابع حياته مثل هذا الممرض، إنها الحربُ الحقيرةُ يا ابنتي، إنها الحرب التي جعلتني أراه في كل زاويةٍ من زوايا البيت وكأنه خيال.

ثم استرسلت في حديثها: إن هذه الحرب لم مني ولدي فقط، بل خطفت والده الذي كان السند والملاذ الوحيد لي في مصائبي.

حاولتُ أن أقاطعها الحديث لكي تنسى بعضاً من مآسيها، فبادرت بسؤالها نسيتُ يا خالتي أن أسألك سؤالاً ما حاجتك هنا في المشفى؟

أنا سوف أعمل هنا في هذه المشفى كي أسهم في إنقاذ جميع المصابين في هذه الحرب، وأكمل حلم ابني أحمد، حينها علمت أن أم أحمد تحمل بداخلها تاريخاً من الأسى، وقفتُ بذهولٍ أمامها وأنا أقول في نفسي هل يمكن أن أصبح مثلها ذات يوم؟

هل يصيرُ وجهي كوجه أم أحمد التي بدت كالأرض التي خطّها الفلاح بمحراثه؟

 

(وفاء المحمد)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى