غير مصنف

في مثل هذه الأيام من كلّ سنة

تُؤنسُ بها وِحدتها، كانت تمارس هوايتها هذه كلّ مساء.
تجلس الأم على كرسي أمام المرآة، بعد أن تحضن طفلها إلى صدرها، ثمّ تسرح له شَعره الطويل، بهدوء، ومتعة ، كأنها تعزف على آلة موسيقية.. أحياناً لساعة وأحياناً أكثر.
لم تخبره أن الطبيب قال لها بخجل منذ فترة، إن طفلها ذا الشعر الجميل أصيب بالسرطان، ابتلعتْ سرّاً قهرها، لكنه كاد أن ينفجر داخلها خلال العلاج الكيميائي، عندما تساقط شَعر طفلها.
لم تسمح له أن يقترب من المرآة، كانت مرتبكة جداً، فكرتْ طويلاً وهي تدخن وترتجف، ثمّ غنتْ له حتى نام، تسللتْ بحذر خارج البيت وهرولتْ إلى صالون قريب للحلاقة النسائية، وقصتْ شعرها على الصفر وسط دهشة المزينة والسيدات.. أرادتْ بهذا أن تُقنع طفلها أن تساقط شَعره شيءٌ طبيعي يحدث الآن لكلّ الناس.
عندما عادتْ اندستْ جانبه وتظاهرتْ بالنوم.
استيقظ فانتبه لرأسها الأقرع، صار يتحسسه بسبابته، أخذته إلى حضنها وحملته لتجلس أمام المرآة، داعبتْ رأسه الأصلع ثمّ نقرت بأصبعها على رأسها الأصلع، حكت له وهي تداري بين كلماتها شهقات مريرة مكبوتة:
ـــ لا تقلق يا صغيري، في مثل هذه الأيام من كلّ سنة، يذهب شَعَرُ الناس إلى خلف الجبل، في إجازةٍ قصيرة.. ليس شَعَرُكَ فقط، وسرعان ما يعود، أرجوك.. لا تحزن.
في المساء كانت تفرم الخضار في المطبخ بين دموعها الصامتة، قطعتْ ــ خلال شرود ذهنها ــ إصبعها الإبهام.
في مستوصف قريب لفّ الطبيب يدها بضمادة، لترجع إلى بيتها وطفلها بيدٍ تنقص إصبعاً.
وهي نائمة بتعب، كان طفلها المستلقي جانبها يتأمل يدها المضمدة، يبتلع غصة مريرة ويبكي بصمت.
في الصباح رافقته إلى حافلة المدرسة وهي تلهو معه، حملته المعلمة وقبلته، ومضتْ بهم الحافلة إلى المدرسة.
لكنها بعد ساعتين شاهدتْ من النافذة طفلها و معلمتين يمشون معاً ببطءٍ، هرولتْ لتفتح لهم الباب، وجه طفلها كان شاحباً، لوح لها وهو يصرخ سعيداً:
ــ لا تقلقي يا أمي، ، في مثل هذه الأيام من كلّ سنة، تذهب أصابع الناس إلى خلف الجبل، في إجازةٍ قصيرة.. ليست إصبعكِ فقط، وسرعان ما تعود، أرجوكِ.. لا تحزني.
انتبهتْ ليده التي يلوح بها، كانت ملفوفة بضمادة.

 

(مصطفى تاج الدين الموسى)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى